شاع بين المسلمين الإعتقاد بأن اليهود والنصارى حرفوا كتبهم، وصار كل مسلم سواء كان عامياً أو متعلماً يقبل هذا الأمر وكأنه من المسلمات، فهل من دليل على اتهام المسلمين للإنجيل؟
خطورة الاتهام:
اتهام التوراة والإنجيل والزبور بالتحرف اتهام خطير، لا ينبغي أن نلقي به دون دليل، لأن البينة على المدعي، البينة على المسلم الذي يدعي أن الإنجيل قد تم تحريفه، وإن لم يكن لديه بينة عليه أن يتوقف عن ترديد الاتهام. هل يقبل المسلم أن أقول له أن القرآن تم تحريفه دون أن أقدم الدليل؟ هل يقبل أن أعتبره من المسلمات دون تقديم براهين؟
الأدلة على التحريف:
إن اتهام المسلمين للإنجيل بالتحريف هو مبني على أساس أن القرآن قال ذلك، فلم يدرس المسلمون الإنجيل ثم خرجوا بالنتيجة بل كونوا الفكرة مسبقا دون حتى ان يطلعوا على الإنجيل أو يدرسوه.
تحريف المعنى:
ومن بين الآيات التي ارتكزوا عليها هي تلك الآيات التي تتهم بعض اليهود الذين كانوا معاصرين لمحمد حيث يقول القرآن: مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ (النساء ٤٦). وهنا لا يتحدث القرآن عن الكتاب المقدس أو الإنجيل بل يتحدث عن اليهود الذين كانوا يتلاعبون بالكلمات حين يكلمون المسلمين، فهم حرفوا بعض الكلمات ليا بألسنتهم والكلمات هنا ليست كلمات الكتاب المقدس بل الكلام العادي، كأن يقولوا سمعنا وعصينا عوضا عن سمعنا وأطعنا، فوصفهم بتحريف الكلام بألسنتهم والطعن في الدين بسبّ النبيّ (الطبري في تفسير النساء ٤٦).
وهناك آيات أخرى تتهم اليهود أيضا حيث تقول: أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (البقرة ٧٥). والآية هنا تتحدث عن فريق فقط، ولا تتحدث عن الكل، ففريق من اليهود كان يسمع كلام الله ثم يحاول تأويله بمعنى آخر، حيث قال الطبري ويعنـي بقوله: ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ ثم يبدلون معناه، وتأويـله: ويغيرونه (الطبري للبقرة ٧٥).
يعني أنهم كانوا يحرفون المعنى وليس النص، فالنص عند كل اليهود، وفريق منهم كان يحاول تأويل النصوص بغير معناها الحقيقي، وهذا يحصل في كل دين وملة، حتى في الإسلام هناك فرق تغير معاني القرآن، تحرفه عن قصد أو غير قصد، تحريف المعاني لا يطعن في صحة النص.
هناك نص آخر صريح يتهم فريقا من اليهود بالتحريف كتابة حيث يقول: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (البقرة ٧٩). هذا النص فسره الطبري بأنه كان ناس من الـيهود كتبوا كتابـا من عندهم يبـيعون من العرب ويحدثونهم أنه من عند الله لـيأخذوا به ثمنا قلـيلاً (الطبري في تفسيره للبقرة ٧٩). وهذا لا يعتبر حجة ضد الكتاب المقدس لأنهم لم يحرفوا الكتاب المقدس في ذاته بل كانوا يكتبون أي شيء ويضحكون على بعض العرب ويبيعونه إياهم على أساس أنه كتاب من الكتب المقدسة، فهل لو كتب شخص كتابا وباعه لشخص غير متعلم على أساس أنه قرآن سنقول عن القرآن أنه تعرض للتحريف؟ سيظل القرآن قرآنا رغم هذه العملية.
وبالتالي لا نجد أي نص صريح يتهم الكتاب المقدس بأنه كتاب محرف.
الأدلة ضد التحريف:
لكن بالمقابل، حتى لو اعتمدنا على القرآن، سنجد أن هناك ما يؤيد سلامة الكتاب المقدس من التحريف.
أهل الكتاب:
يسمي القرآن اليهود والمسيحيين أهل الكتاب حيث وردت هذه الكلمة ٣١ مرة في القرآن. هذا خير دليل على أن القرآن لا يعتبر الكتاب المقدس محرفا، لأنه لو كان محرفا لا تصح تسمية اليهود والمسيحيين بأهل الكتاب، هل هم أهل كتاب محرف؟ إن تسميتهم بأهل الكتاب هي اعتراف ضمني بصحته أنه هو الكتاب بالألف واللام، الكتاب الصحيح، وهم أهله لأنهم لازالوا محافظين عليه.
مصدقا لما معكم:
من بين الأدلة أيضا كلام القرآن عن تصديق محمد بالكتاب المقدس الذي مع اليهود والنصارى حيث يقول مثلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم (النساء ٤٧). فهل من المعقول أن يصدق محمد لما مع أهل الكتاب وهو محرف؟ هل يصدق المحرف؟ يتكرر هذا الكلام في مكان آخر حيث يقول: وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ (البقرة ٤١). يطلب القرآن هنا من اليهود والمسيحيين الإيمان به لأنه مصدق لما معهم، فهو يؤكد ما معهم، فهل القرآن مصدق لما مع اليهود والمسيحيين من التحريف؟
من التعبيرات الأخرى التي تتردد في القرآن تعبير: بين يديه. فالقرآن مصدق لما بين يدي محمد من الكتاب المقدس، أي أنه مصدق لما يوجد في عصر محمد من نسخ الكتاب المقدس، حيث يقول: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ (آل عمران ٣و٤). ويقول أيضا: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ (المائدة ٤٨). السؤال هنا كيف يكون الكتاب المقدس محرفا ومحمد مصدق له؟ هل محمد يصدق ما بين يديه من الكتاب رغم أنه محرف؟
مع العلم أن الكتاب المقدس الحالي يوافق المخطوطات التي كانت في عصر محمد وما قبل عصر محمد بقرون.
يكتفي القرآن بذلك بل يسمي الكتاب المقدس "آيات الله" حيث يقول عن أهل الكتاب: لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (آل عمران ١١٣). يتحدث القرآن هنا عن المخلصين من أهل الكتاب الذين يطبقون دينهم، وبطبيعة الحال فإنهم يقرؤون الكتاب المقدس، ويسمي القرآن هذه القراءة أنها تلاوة لآيات الله فهل القرآن يسمي كتابا محرفا بأنه آيات الله؟
الخلاصة أنه توجد آيات كثيرة في القرآن تؤكد صحة الكتاب المقدس وبالمقابل لا توجد أية آية صريحة تتهم الكتاب المقدس بالتحريف، فأين قال القرآن أن الكتاب المقدس محرف؟