قد يبدو لأول وهلة أن السؤال عن تجلي الله لخلقه سؤال صعب، والبعض قد يعتبره شركا أو خوضا في أمور غيبية لا يجوز للإنسان الخوض فيها، بل هناك من يعتبر التجلي إهانة في حق الله لأنه لا ينبغي لله أن ينزل لمستوى خلقه ويتجلى لهم، ولذلك ينظر المسلمون للمسيحيين على أساس أنهم كفار ومشركون لأنهم تجرؤوا وادعوا أن الله تجلى لخلقه في المسيح.
في هذه النبذة سنحاول الإجابة على هذا السؤال من النصوص الإسلامية والمسيحية: هل يمكن أن يتجلى الله لخلقه؟
الله يتجلى لخلقه في القرآن:
في القرآن نجد مثلا أن الله تجلى للجبل والجبل جماد حيث يحكي القرآن عن موسى قائلا: "فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا" (الأعراف ١٤٣). وكلمة تجلى تعني ظهر، يقول القرطبي "وتجلّى معناه ظهر؛ من قولك: جَلَوْت العروس أي أبرزتها. وجَلَوْت السيف أبرزته من الصدإ؛ جلاءً فيهما. وتجلّى الشيء انكشف" (تفسير القرطبي للأعراف ١٤٣). وهذا يعني أن الله كان غير ظاهر للجبل ثم ظهر له، والظهور يقتضي الصورة، لأن الظهور يكون في زمان ومكان، بل إن المفسرين قالوا بأن الله لم يظهر منه إلا جزء صغير للجبل وهذا الجزء كان قدر الأصبع الصغير في اليد "ما تـجلـى منه إلا قدر الـخِنصَر" (تفسير الطبري للأعراف ١٤٣).
وفي سورة أخرى يذكر القرآن أن الناس سيرون الله " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" (القيامة ٢٢ و ٢٣). قال المفسرون عنها " عن عكرِمة وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إلى رَبِّها ناظِرَةٌ قال: تنظر إلى ربها نظرا" (الطبري للقيامة ٢٣). وعن الحسن قال "تنظر إلى الخالق" (الطبري للقيامة ٢٣). وهذا معناه أن الناس سيرون الخالق عيانا، وبما أن الخالق سيظهر لهم وهم أشخاص محدودون فإن ظهوره يقتضي التواجد في زمان معين ومكان معين حيث سيراه المؤمنون وهذا طبعا يقتضي ظهوره في صورة معينة.
الله يتجلى لخلقه في السُنة:
أما في السُنة فالأحاديث التي تتحدث عن رؤية الله أو أن له صورة فهي كثيرة، منها الحديث الذي قال فيه نبي الإسلام "فَإِنَكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ" (سنن الترمذي). وهذا يعني أن رؤية الله ستكون حاصلة لا محالة، وعن كون الله له صورة يقول نبي الإسلام "إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ. فَإِنَّ اللّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ" (صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن ضرب الوجه). ورغم أن بعض المفسرين أرجعوا الضمير على آدم لكن بعضهم ذكر أن الهاء تعود على الله وهذا يوافق ما جاء في التوراة من قبل بأن الله خلق الإنسان على صورته (تكوين ١ آية ٢٧). وفي حديث المحشر أن الله سيظهر للمسلمين في صورة ثم بعد ذلك سيأتيهم " سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا. قَالَ: فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتَ تَعْبُدُ. قَالُوا: يَا رَبَّنَا! فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ. فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللّهِ مِنْكَ. لاَ نُشْرِكُ بِاللّهِ شَيْئَاً" (صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية). وهذا معناه أن الله سيغير صورته إلى صورة لا يعرفه بها المؤمنون به من المسلمين، ثم يقول لهم أنا ربكم وسيتبرؤون منه قائلين نعوذ بالله منك. لا نشرك بالله شيئا. وهذا يعني أن الصورة التي ظهر فيها لا توحي بأنه الله ولذلك سيتبرأ منه حتى المؤمنون به.
ثم يقول "هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعْمْ. فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ. فَلاَ يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلاَّ أَذِنَ اللّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ. وَلاَ يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلاَّ جَعَلَ اللّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً. كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ. ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ، وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ. فَقَالَ: أَنَّا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا" (صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية). سيطلب الله من المؤمنين العلامة فيقولون كشف الساق، فيكشف عن ساقه، وبينما هم ساجدون سيتحول إلى الصورة الأولى، ثم حينها يقول لهم أنا ربكم فيقولون نعم أنت ربنا. والحديث مكرر برواية أخرى "وَتَبْقَى هذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا. فَيَأْتِيهِمُ الله، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فِي صُورَةٍ غيرِ صورتِهِ التي يَعْرِفُونَ. فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِالله مِنْكَ. هذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا. فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ. فَيَأْتِيهِمُ الله تَعَالَى فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ. فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا. فَيَتَّبِعُونَهُ" (صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية). ألا يدل هذا الحديث على أن الله يظهر في صور متعددة وأنه يغير صورته أيضا؟ ألا يدل كشفه عن الساق أن هذه الصورة بشرية؟
أسئلة منطقية:
إذن إذا كان الله قد ظهر للجمادات (للجبل مثلا) في الدنيا وسيظهر للناس يوم القيامة في صور مختلفة منها صورة بشرية بدليل كشفه عن الساق، فما المانع أن يظهر للناس في شخص المسيح في الدنيا وفي الآخرة؟ لماذا حلال على المسلمين أن يعتقدوا بظهور الله في صورة معينة أو صور مختلفة وحرام على المسيحيين أن يعتقدوا أن الله ظهر في صورة المسيح؟ الفرق بين المسلمين والمسيحيين في هذه المسألة ليس قدرة الله على الظهور في صورة أو في إمكانية ذلك بل الاختلاف زمني فقط: المسلمون يقولون أن الله سيقوم بذلك في أرض المحشر يوم القيامة، والمسيحيون يقولون أنه قام بذلك منذ أكثر من ألفي سنة في شخص المسيح المبارك.
وهنا أطرح سؤالا: إذا كان مبدئيا يمكن لله أن يظهر في صورة ما فإن زمن حصول ذلك غير مهم، لأن الله ليس عنده ماضي ومستقبل وحاضر، الكل عنده سواء، فالقادر على الظهور في صورة يوم القيامة قادر على الظهور في صورة في الدنيا أيضا، لأن قدرة الله لا تتغير بتغير الزمن.
هل هناك فرق بين ما يعتقده المسلمون وما يعتقده المسيحيون؟
اعتقاد المسيحيين مشابه لاعتقاد المسلمين في مسألة ظهور الله في صورة، فالمسيحيون لا يعتقدون أن المسيح كان إنسانا ثم بالغوا في تقديسه حتى جعلوه إلها، بل يعتقدون أن الله ظهر في صورة السيد المسيح، وأن المسيح هو في الحقيقة الصورة المنظورة لله غير المنظور، فالله هو الظاهر والباطن، ظهر في شخص المسيح وباطنه لا تدركه الأبصار.
آيات من الكتاب المقدس تتحدث عن تجلي الله:
المسيحيون يؤمنون أن الله ظهر في صورة، وهذه الصورة بشرية حيث يقول الكتاب المققدس: وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ (رسالة تيموثاوس الأولى ٣ آية ١٦). ويقول الكتاب المقدس أيضا عن المسيح أنه " الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ" (كولوسي ١ آية ١٥). وفي مكان آخر يقول عنه " الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ" (رسالة كورنثوس الثانية ٤ آية ٤).
ولذلك لا ينبغي أن ننزعج من كون المسيح نام وأكل وشرب وجاع وعطش، فهذه الأمور لم تجر على الله في باطنه أو جوهره بل جرت فقط على الصورة التي ظهر فيها، فالله لا يأكل ولا يشرب ولا يجوع ولا يعطش في جوهره ولا تحده الأماكن ولا الأزمنة، لكن الصورة التي ظهر فيها يحدها الزمان والمكان ويجري عليها ما يجري على المحدود من الصور من وجود في مكان واحد وزمان واحد وأكل وشرب ونوم وعطش وجوع.
فلماذا يقبل المسلم أن الله ظهر لجبل ولا يقبل أن يظهر للبشر؟ أيهما أهم؟ لماذا يقبل المسلم أن الله يظهر في صور مختلفة ويغيرها بل ويظهر في صورة أدنى من صورته ولا يقبل أن يظهر الله في صورة المسيح وهي أجل الصور وأعلاها؟ لماذا يقبل المسلم أنه سيرى الله عيانا يوم القيامة وسيكلمه وجها لوجه ويعيب على المسيحيين أنهم قالوا أنهم رأوا الله ظاهرا في المسيح وكلموه وجها لوجه؟ لماذا يعتبر المسلم المسيحيين مشركين لمجرد أنهم آمنوا أن المسيح هو صورة الله غير المنظور، ولا يعتبر ظهور الله لجبل شركا، ولا يعتبر تغييره للصور يوم القيامة وظهوره في صور مختلفة شركا أيضا؟ لماذا لا يعتبر كشف الله عن ساقه يوم القيامة شركا بالله؟ لماذا الكيل بمكيالين مختلفين؟
لا نملك في الأخير إلا أن نقول مع الكتاب المقدس:
بِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ (رسالة تيموثاوس الأولى ٣ آية ١٦).