أعزائي الباحثين،
لنا في رسالتي بولس الرسول الى رومية وغلاطية ورسالة يعقوب تفاصيل مسألتي التبرير والخلاص بالايمان والاعمال . ويبدو من هذه الرسائل للشخص غير المتمكن من فهم كلمة الله انه يوجد تناقض واضح بينها . فبينما يؤكد الرسول بولس ان التبرير لا يمكن ان يأتي الا بالايمان وحده نقرأ في رسالة يعقوب تأكيده على ان الاعمال هي التي تبرر الانسان . فمن يا ترى هو على حق؟
بالطبع لا يوجد تناقض ابدا في كلمة الله ، والرسولان الفاضلان كلاهما على حق لانهما كتبا بالوحي المقدس المنزه عن الخطأ . ولكن يجب ان نأخذ في الاعتبار بعض الامور التي تساعدنا على فهم المسألة . فالرسالتان الى اهل رومية وغلاطية موجهتان الى الامم الذين لم يكن لهم علاقة مع الله سابقا بل كانوا وثنيين . ولهذا يكتب اليهم الرسول عن الاله الحقيقي الذي يبرر الانسان بالايمان بشخص الرب يسوع المسيح الفادي ، لان الله الذي يعرف القلوب لا يحتاج الى برهان خارجي على صحة الايمان ، لانه هو الذي يعطي الايمان وهو الذي يبرر الانسان ، وكل شيء مكشوف وعريان امام عينيه الفاحصتين سرائر الانسان وضميره
وقلبه. فبولس يوجه انظار الناس الى فوق ويتحدث عن البر باتجاهه العامودي ، اي البر امام الله .
ولكن رسالة يعقوب موجهة الى اليهود الذين كانوا قبل المسيحية على علاقة مع الله من خلال اليهودية التي هي ديانة الاعمال والوصايا والناموس (أي الشريعة) ، بحيث لا يمكن ببساطة الغاء هذا الفكر من نفوسهم او اقناعهم بعدم جدوى الاعمال لارضاء الله .ومن ناحية ثانية ، تتحدث هذه الرسالة عن البر باتجاهه الافقي، اي البر الظاهر في الحياة العملية لاقناع الناس بصحة الايمان، لانه لا يمكن ان يرى الناس قلبي وضميري وايماني في الداخل ، بل هم بحاجة الى ان يروا انعكاس الايمان في حياتي العملية.
ومن ناحية ثالثة تؤكد هذه الرسالة ان التبرير والخلاص يأتيان عن طريق الايمان ، ولكن اذا كان حيا وحقيقيا ، لان ليس كل من قال انه مؤمن هو كذلك بل كما قال ربنا يسوع " من ثمارهم تعرفونهم . هل يجتنون من الشوك عنبا او من الحسك تينا ؟ هكذا كل شجرة جيدة تصنع اثمارا جيدة ، واما الشجرة الردية فتصنع اثمارا ردية " (متى ٧ : ١٦ و١٧) .
اما ان يقال ان الاعمال الصالحة يمكن ان تبرر الانسان وتخلصه اذ تجلب رضى الله عنه فهذا امر مرفوض تماما في الكتاب ، ولا يوجد ما يؤيده على الاطلاق ، لان الكتاب يقول " ولكن بدون ايمان لا يمكن ارضاؤه " (الرسالة إلى العبرانيين ١١ : ٦) . وكذلك الايمان الذي لا يثمر اعمالا صالحة تبرهنه هو ايضا ايمان مرفوض ، اذ ان كل واحد يستطيع ان يقول عن نفسه انه مؤمن . فالكتاب يقول عنهم انهم "يعترفون بانهم يعرفون الله ولكنهم بالاعمال ينكرونه اذ هم رجسون غير طائعين ومن جهة كل عمل صالح مرفوضون" (تيطس ١ : ١٦) .
فالرسول يعقوب يقول " انت تؤمن ان الله واحد ، حسنا تفعل . والشياطين يؤمنون ويقشعرون" (رسالة يعقوب ٢ : ١٩) . فهناك الايمان الميت الذي تحدث عنه يعقوب ونجده عند كثير من الناس حولنا ، لانه ما اكثر المُدعين . وهناك الايمان الحي الذي يلد المؤمن بالروح القدس فيثمر فيه اعمالا تمجد الله . وللأسف فان هذا النوع من الايمان قليل الوجود نسبيا . ويجب ان ندرك الفرق بين الاعمال الصالحة من جهة ، واعمال الايمان من جهة ثانية لكي نستطيع ان نفهم كل نوع في مجاله فلا تختلط علينا الامور . إن الاعمال الصالحة لغير المؤمنين هي بلا قيمة ابدا امام الله له المجد مهما كان نوعها وقيمتها.
ومن ناحية أخرى يعلمنا الكتاب المقدس ان الله له المجد اصيب في شخصه ومجده وكرامته بسبب الخطية . وهو الذي عين ان تكون اجرة الخطية موت ، وان لا تحصل مغفرة بدون سفك دم . فهو له المجد لا يمكن ان يخلص او يبرر احدا يأتي اليه لكي يحصل على الخلاص مقابل اعمال صالحة يدفعها . فليست اعمال الانسان مهما عظمت في قيمتها هي التي تجلب رضى الله عليه، بل ذبيحة الرب يسوع المسيح " الذي اسلم من اجل خطايانا واقيم لاجل تبريرنا " (رسالة رومية ٤ : ٢٥). فهذه الذبيحة هي التي اشتم منها الله رائحة السرور والرضى.
إذا، بدون ايمان لا يمكن ارضاء الله، وكل من يأتي الى الله بأعماله طمعا في الحصول على التبرير والخلاص هو شخص يزدري تماما بمجد الله وبنعمته وبقيمة ذبيحة المسيح وبمخطط الله الذي حدده لتبرير الانسان. ولو سلمنا جدلا ان في طاقة الانسان ان يقدم شيئا مقابل خلاصه ، فهل نظن ان مجد الله الذي اهين بالخطية يوجد عند الإنسان ما يعوض عنه او يعادله لكي يرضى به الله ثمنا؟
فالله لم يرض الا بنفسه متجسدا في شخص المسيح يسوع ربنا ليعالج موضوع الخطية ويدينها في الصليب ، لكي يقدم الخلاص والتبرير مجانا لكل الذين يؤمنون بعمل المسيح البديلي والنيابي على الصليب ، شاعرين بفظاعة خطاياهم واستحقاقهم للدينونة، ومبررين الله الذي تنازل لكي يرحمهم ويخلصهم من الخطية بواسطة ذبيحة المسيح التي لا حد لقيمتها.
هناك على الاقل اربعة اسباب رئيسية لعدم صلاح الاعمال الصالحة للتكفير عن الخطية وتبرير الانسان وتخليصه:
١- ان الاعمال الصالحة التي نقوم بها مهما عظمت، تبقى قيمتها محدودة لانها صادرة من الانسان المحدود . بينما حق الله الذي اسيء اليه بسبب الخطية لا حد له . والمحدود لا يمكن ان يغطي غير المحدود.
٢- ان هذه الاعمال الصالحة اذا كان بوسعنا حقا ان نعملها ، ليست تفضلا منا على الله بحيث نستحق الجزاء عليها ، بل هي واجب علينا . والتقصير في هذا الواجب يستوجب العقاب.
٣- كما انه لا يصلح ان يتعهد المجرم امام المحكمة ببناء دار للايتام ، او يتعهد بانه سيتوب عن القتل مقابل ان تسامحه المحكمة ، هكذا لا تصلح الاعمال الصالحة ان تكون مقابل اجرة الخطية التي هي الموت، "لان اجرة الخيطة هي موت " (رسالة رومية ٦ : ٢٣).
٤- لان الاعمال التي نقول عنها انها صالحة ليست هي كذلك في نظر الله ، بل انها ملطخة بنقائص وعيوب الطبيعة البشرية الساقطة.
بالاضافة الى هذا ، فان غير المؤمن هو في نظر الله ميت روحيا في الذنوب والخطايا . والميت عادة لا يتحرك ولا يعمل شيئا لان ليس فيه الروح الذي يحركه . فهو اذا بحاجة الى الحياة اولا ً قبل ان يطلب منه عمل اي شيء يبرهن انه فعلا على قيد الحياة روحيا . وهذا ما يسمى الولادة الجديدة . والحياة هذه عطية من الله يحصل عليها الانسان بالايمان كما هومكتوب "الذي يؤمن بالابن له حياة ابدية ، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله" (يوحنا ٣ : ٣٦).
لا مفر اذا من الطريق الذي رسمه الله . وهذا ما تقوله كلمة الله عن الخلاص :
١- الخلاص بالايمان والنعمة وليس بالاعمال:
"لانكم بالنعمة مخلصون بالايمان وذلك ليس منكم. هو عطية الله. ليس من اعمال كيلا يفتخر احد" (رسالة افسس ٢ : ٨ و ٩).
"بحسب قوة الله الذي خلصنا ودعانا دعوة مقدسة لا بمقتضى اعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة التي اعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الازمنة الازلية " (رسالة تيموثاوس الثانية ١ : ٩).
"ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله واحسانه ، لا باعمال في بر عملناها نحن ، بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا. حتى اذا تبررنا بنعمته نصير ورثة حسب رجاء الحياة الابدية" (تيطس ٣ : ٣-٧).
٢- الخلاص ليس بالايمان والاعمال معا:
"اما الذي يعمل فلا تحسب له الاجرة على سبيل نعمة بل على سبيل دين . واما الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر فايمانه يحسب له برا . كما يقول داود ايضا في تطويب الانسان الذي يحسب له الله برا بدون اعمال ، طوبى للذين غفرت اثامهم وسترت خطاياهم . طوبى للرجل الذي لا يحسب له الرب خطية" (رسالة رومية ٤ : ٤-٨).
"فكذلك في الزمان الحاضر ايضا قد حصلت بقية حسب اختيار النعمة. فان كان بالنعمة فليس بعد بالاعمال. والا فليست النعمة بعد نعمة. وان كان بالاعمال فليس بعد نعمة. والا فالعمل لا يكون بعد عملا" (رسالة رومية ١١ :٥ و ٦).
٣- الخلاص ليس بأعمال الناموس:
"اذ نعلم ان الانسان لا يتبرر باعمال الناموس بل بايمان يسوع المسيح ، امنا نحن ايضا بيسوع المسيح لنتبرر بايمان يسوع لا باعمال الناموس . لانه باعمال الناموس لا يتبرر جسد ما ... مع المسيح صلبت فأحيا لا انا بل المسيح يحيا في . فما احياه الان في الجسد فانما احياه في الايمان ، ايمان ابن الله الذي احبني واسلم نفسه لاجلي . لست ابطل نعمة الله . لانه ان كان بالناموس بر فالمسيح اذا مات بلا سبب" (رسالة غلاطية ٢ : ١٦ و٢٠ و٢١).
"فهل الناموس ضد مواعيد الله ؟ حاشا . لانه لو اعطي ناموس قادر ان يحيي لكان بالحقيقة البر بالناموس . لكن الكتاب اغلق على الكل تحت الخطية ليعطى الموعد من ايمان يسوع المسيح للذين يؤمنون" (رسالة غلاطية ٣ : ٢١ و ٢٢).
اما ماذا يقول الكتاب عن الاعمال الصالحة ولزومها :
١- العمل الذي يرضى الله عنه وقد اوصى به الانسان كي يفعله هو الايمان بيسوع المسيح:
"فقالوا له ماذا نفعل حتى نعمل اعمال الله ؟ اجاب يسوع وقال لهم هذا هو عمل الله ان تؤمنوا بالذي هو ارسله" (يوحنا ٦ : ٢٨ و ٢٩).
"ومهما سألنا ننال منه لاننا نحفظ وصاياه ونعمل الاعمال المرضية امامه . وهذه هي وصيته ان نؤمن باسم ابنه يسوع المسيح ونحب بعضنا بعضا كما اعطانا وصية " (رسالة يوحنا الأولى ٣ : ٢٢ و ٢٣).
٢- الاعمال المقبولة عند الله هي ثمر الايمان وتنسب له وضرورية من اجل الناس:
"صادقة هي الكلمة . واريد ان تقرر هذه الامور لكي يهتم الذين امنوا بالله ان يمارسوا اعمالا حسنة فان هذه الامور هي الحسنة والنافعة للناس ... وليتعلم من لنا ايضا ان يمارسوا اعمالا حسنة للحاجات الضرورية حتى لا يكونوا بلا ثمر" (رسالة تيطس ٣ : ٨ و ١٤).
٣- الاعمال المقبولة هي التي يعملها الله بروحه في المؤمن ، وليست الاعمال التي يعملها المؤمن من ذاته :
"واما من يفعل الحق فيقبل الى النور لكي تظهر اعماله انها بالله معمولة" (يوحنا ٣ : ٢١).
"لاننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لاعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها" (رسالة افسس ٢ : ١٠).
"لان الله هو العامل فيكم ان تريدوا وان تعملوا من اجل المسرة" (رسالة فيلبي ٢ : ١٣).
"واله السلام ... ليكملكم في كل عمل صالح لتصنعوا مشيئته ، عاملا فيكم ما يرضي امامه بيسوع المسيح ، الذي له المجد الى ابد الابدين امين" (الرسالة إلى العبرانيين ١٣ : ٢٠ و٢١).
"الامر الذي لاجله اتعب ايضا مجاهدا بحسب عمله الذي يعمل في بقوة" (رسالة كولوسي ١ : ٢٩).
٤- الاعمال واجب علينا وهي امر الهي يجب اطاعته:
"كذلك انتم ايضا متى فعلتم كل ما امرتم به فقولوا اننا عبيد بطالون ، لاننا انما عملنا ما كان يجب علينا" (لوقا ١٧ : ١٠).
"فمن يعرف ان يعمل حسنا ولا يعمل فذلك خطية له" (رسالة يعقوب ٤ : ١٧).
٥- الاعمال لها اجرة امام كرسي المسيح . ولكن ليس اجرتها التبرير والخلاص والحياة الابدية:
" اذا يا اخوتي الاحباء كونوا راسخين غير متزعزعين مكثرين في عمل الرب كل حين عالمين ان تعبكم ليس باطلا في الرب" (رسالة اكورنثوس الأولى ١٥ : ٥٨).
" فلا نفشل في عمل الخير لاننا سنحصد في وقته ان كنا لا نكل . فاذا حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع ، ولا سيما لاهل الايمان" (رسالة غلاطية ٦ : ٩ و ١٠).
" لانه لا بد اننا جميعا نظهر امام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيرا كان ام شرا" (الرسالة كورنثوس الثانية ٥ : ١٠).
" وكل ما فعلتم فاعملوا من القلب كما للرب ليس للناس ، عالمين انكم من الرب ستأخذون جزاء الميراث ، لانكم تخدمون الرب المسيح" (رسالة كولوسي ٣ : ٢٣ و٢٤).
" عالمين ان مهما عمل كل واحد من الخير فذلك يناله من الرب عبدا كان ام حرا" (رسالة افسس ٦ : ٨).
واخيرا نقول انه من العبث ان نتكلم عن النعمة والايمان والحياة الابدية ان كانت لا تظهر فينا ثمار الاعمال الصالحة . ومن العبث ايضا ان نفتخر بمعرفتنا للحق وتثبتنا من مقامنا الذي نقلتنا اليه نعمة الله اذا لم تكن اقدامنا سائرة في طريق "الاعمال الصالحة التي سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها" (رسالة افسس ٢ : ١٠). لان الله يتطلع الى الحقائق الملموسة ولا يرضى بمجرد الكلام والاعترافات . لذلك يقول الرسول يوحنا "يا اولادي لا نحب بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحق" (رسالة يوحنا الاولى ٣ : ١٨). وهذا هو نوع المحبة التي احبنا بها الرب، وهو يتوقع ان نقابله بمثلها، من خلال حياة مليئة بالاعمال الصالحة.
فنرجو يا عزيزي ان تكون قد قبلت المسيح يسوع بالايمان لخلاص نفسك ، وثق انه سيعمل فيك بروحه القدوس ما يمجد اسمه المبارك الذي دعي عليك ان كنت تفسح له المجال لكي يستخدمك ، وله المجد والكرامة والسلطان الى ابد الآبدين . آمين.