في حياة كلّ مِنّا طُرُقات نسلكها اختيارًا وتصميمًا، وطرقات نعرج عليها ترنحًا وحبًّا باختبار مغامرة السبيل، وأخرى تُفرَض علينا، وليس لرفضنا أو القبول أيّ فرق. ولعلّ أعجب ما في معادلة الحياة، وربما يمكننا أن نقول الأخطر، أن معظم ما يدخل في تشكيل هويتنا هو حصيلة خيار الآخرين لنا، أو حصيلة إرث لا يجرؤ الكثيرون مِنّا على رفضه، حتى حين تراودنا الشكوك في مدى إفادته لنا، أو ملاءمته اتجاهنا وهدفنا في الحياة.
فمَن مِنّا يقدر أن يتنكّر لعائلة ولد فيها، وفي جيناته منها فِعل سرّ أبدي؟ مَن مِنّا يجرؤ على القول، حتى وإن هو بدّل هويّته، بأنّه يستطيع أن يبدّل انتماءه إلى عادات وتقاليد وطن وأمّة ترعرع فيهما؟ مَن مِنّا يفكِّر في هجر دينٍ وُلد عليه، لمجرد رغبة في معاكسة خيار الآخرين له؟
معظمِنّا ينتهي إلى قبول موروثات العائلة والوطن والدين بإعتزاز وإفتخار، ليصبح موقفنا الأول هو الدفاع عنها كمقدّسات، وتحييدها كمحرّمات. ولكن في سِرّنا، قد يتمنى بعضنا لو أنّه وُلد لعائلة أيسر حالاً أو أرفع مكانةً، تطلُّعًا إلى فرصة عيش أفضل، وهو لا يرى في التمنِّي أيّ خطأ. ولا يخجل أي مِنّا في البحث عن فرصة حياة أفضل في أرضٍ جديدة، لا بأس أيضا أن تُصبح فيما بعد الوطن. وقد يشجعنا على ذلك كلّ مَن يريد لنا غدًا أفضل.
ولكن في الدين، القاعدة هي أن ما أورِثَ لنا هو الأفضل. بل على العكس، المسألة هنا بالنسبة لنا ليست في جيد وأفضل، بل هي في الحقّ المُطلَق. كلّنا في العلن يستميت في الدفاع عن دينه على أنّه الحقّ الأوحد، حتى عندما نشكّك في ذواتنا أنّه قد يكون. قد نطرح في دواخلنا ألف سؤال لا نعرف لهم جوابًا، ننساهم أو نتناساهم بعد لحظة، مقنِعين ذواتنا بأنّه ما مِن أحد لديه جواب قاطع. أو ربما أنّه ما زال لدينا الكثير من الوقت، ولا داعي الآن للقلق. وقد نركن على الأغلب إلى الجواب البديهي "إنّنا بالتـأكيد حيث يجب أن نكون". جميع مَن هم على دينٍ تساءلوا ولو لمرة واحدة على الأقل، هل إلهي هو الإله الحقّ؟ جميعهم عاشوا ولو للحظةٍ رهبة الشكّ بأنّه قد لا يكون. ولكنّ قلّة فقط تجرّأوا على الوقوف لحظة ضعف صادقة أمام ذواتهم، وأمام إله لا يعرفونه ولكنهم عطاشٌ إلى معرفته، وصرخوا من عمق القلب "عرّفني ذاتك، أرِني وجهك".
ماذا لو أنّ إلهك لم يكن فعلاً إله الحقّ؟ ماذا لو لم تكن في الحقّ؟ ماذا لو كنتَ قد عشتَ العمر مستسلمًا لما هو فقط مجموعة من التقاليد والعقائد الموروثة؟ ماذا لو كنتَ قد أمضيت سنين العمر تؤدِّي فروضَ تقوى وعبادة لإلهٍ ليس له وجود؟ وماذا لو كان وقوفك في يوم الحساب، وكلّنا نعرف دون أدنى شكّ أنّه لابد من يوم حسابٍ، ماذا لو كان وقوفك أمام إله لم تعرف له وجهًا ولم تسمع له صوتًا. ماذا تقول؟
هي أبديتك ... ولك أن تختار
هل تستحق حياتنا الأبديّة، وكلّ مؤمن بوجود الله يؤمن قطعًا بأنّ النفس البشريّة خالدة، هل تستحق مِنّا لحظة تجرّد للبحث عن الحقّ؟ هل يعجز الله الحيّ الذي جميعنا على اختلاف أدياننا نقف بانحناءٍ أمام عظمة قدرته، هل يعجز عن إشباع نفس تتحرّق رغبةً إلى معرفته؟ هل يفشل في أن يُظهر الحقّ للذين رغبتهم هي معرفة الحقّ لأجل الحقّ؟ هل تَضِيع أمام إله عادل صرخة نفس مُتعَبة شوقًا إلى معرفته؟ هل يخدع الله اتقياء القلوب الباحثين عنه حبًّا به؟
نحن نخشى الناس ونحاول إرضاءهم. ولكنّ عدالتهم غير مضمونة وليست بذي نفعٍ. وواجب علينا أن نخشى القانون، ولكن أيضًا عدالته غير مضمونة، لأنّه من صُنع البشر. ولكن عدل الله مَن يقف أمامه؟ أمامه لن يجرؤ أحد أن يقول سألتك أن تريني وجهك ولم تفعل، بحثتُ عنك ولم أجدك، فتحـت لك باب قلبي ولم تدخل.
لذلك نشجعك على أخذ الخطوة الأولى بكل جرأة، أطلب من الله أن يعلن لك ذاته ويظهر لك الحق. نشجعك على الإنصياع لأمر الرب على فم داوود الذي قال: اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم كما في مريبة مثل يوم مسة في البرية حيث جربني اباؤكم. إختبروني. أبصروا أيضا فعلي. أربعين سنة مقت ذلك الجيل وقلت هم شعب ضال قلبهم وهم لم يعرفوا سبلي. فأقسمت في غضبي لا يدخلون راحتي (مزمور ٩٥: ٧ - ١١). لذلك تذكرنا كلمة الرب : أنظروا أيها الإخوة أن لا يكون في أحدكم قلب شرير بعدم إيمان في الإرتداد عن الله الحي. بل عظوا أنفسكم كل يوم ما دام الوقت يدعى اليوم لكي لا يقسى أحد منكم بغرور الخطية... ولمن أقسم لن يدخوا راحته إلا للذين لم يطيعوا؟ فنرى أنهم لم يقدروا أن يدخلوا لعدم الإيمان (الرسالة إلى العبرانيين ٣: ١٢ - ١٣ و ١٨ - ١٩).