أعزائي الباحثين،
تقول كلمة الرب "لان الذين استنيروا مرة... وسقطوا، لا يمكن تجديدهم ايضا للتوبة، اذ هم يصلبون لانفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه" (الرسالة إلى العبرانيين ٦: ٤ - ٦). وقد يبدو للقارىء من الوهلة الأولى أن " الذين استنيروا " في هذا المقطع هم اشخاص مؤمنون مسيحيون بالحق، ثم سقطوا فخسروا خلاصهم، بحيث لا يمكنهم الحصول على الخلاص مرة ثانية، إلا أن فكرا ً كهذا لا يمكن أن يكون صحيحا ً إذا أمعنا النظر في ما يحتويه هذا الإصحاح.
يبدأ الرسول بولس حديثه في الإصحاح السادس عن ضرورة ترك ما أسماه بوحي الروح القدس "كلام بداءة المسيح"، أي اليهودية، والتقدم إلى الكمال، أي المسيحية. فإذا وضعنا أمام عيوننا أن "شهادة يسوع هي روح النبوة" (سفر الرؤيا ١٩ : ٧)، أي أن كل نبوات الكتاب وإعلانات الله للبشر تدور حول شخص الرب يسوع المسيح، لفهمنا معنى عبارة "كلام بداءة المسيح". ففي اليهودية كان الله يعطي رموزا ً وظِلالا ً عن المسيح مرتبطة بطقوس وشعائر وتقاليد كان اليهود يمارسونها، غير أنهم كانوا قاصرين عن معرفة الله من خلالها كما يجب. لذلك يقول الرسول هنا أنه يجب ترك كلام بداءة المسيح والتقدم إلى الكمال. والكمال هنا هو كمال الإعلان الإلهي للبشر من خلال شخص ربنا يسوع، الذي بمجيئه إلى العالم وإكماله عمل الفداء بموته على الصليب وقيامته وصعوده وجلوسه في يمين عرش الآب، توضح لنا الفكر الإلهي إلى التمام، بحيث أننا بقبولنا الرب يسوع بالإيمان في قلوبنا لم نعد بحاجة إلى أي من الطقوس والشعائر التي كانت تمارس في اليهودية. لذلك يواصل الرسول القول أنه لا يجب أن نضع أساسا ً لتوبتنا إلى الله ما كان اليهود يعتمدونه من "أعمال ميتة والإيمان بالله، تعليم المعموديات ووضع الأيادي، قيامة الأموات والدينونة الأبدية". فقد إعتبر الرسول بالوحي المقدس أن هذه الأشياء هي بدائية يجب تركها، على الرغم من كون بعضها حقائق معترف بها كالإيمان بالله وقيامة الأموات والدينونة الأبدية، فيما البعض الآخر هو عبارة عن طقوس ومراسيم كالأعمال الميتة وتعليم المعموديات ووضع الأيدي. والسبب في طلب الرسول ترك هذه الاشياء البدائية في الديانة اليهودية هو أن في المسيحية نورا ً أعظم يتعلق بهذه الحقائق، يقودنا لمعرفة كمال الإعلان الإلهي الذي هو في شخص ربنا يسوع المسيح إبن الله، الذي لا يمكن أن يضاف إليه شيء، ولا ينفع معه إعتماد أي من الأمور البدائية التي يجب تركها.
ثم يواصل الرسول الحديث عن هؤلاء الذين يريدون الدخول إلى المسيحية دون أن يتركوا ما في اليهودية من طقوس وتقاليد وشعائر فيقول عنهم "لأن الذين استنيروا مرة". فالذين استنيروا لا يعني أنهم أصبحوا مسيحيين بالحق، وإنما تأثروا خارجيا ً بنور المسيحية الذي بدأ ينتشر في ذلك الوقت بقوة من خلال المعجزات والتبشير بكلمة الله. ومن أمثال هؤلاء المستنيرين سيمون الساحر الذي بدا لكثيرين أنه مؤمن بالحق ولكن تبين فيما بعد أنه لم يكن مؤمنا ً حقيقيا ً بل متأثرا ً عقليا ً فقط بسبب المعجزات العظيمة التي شاهدها تجرى على أيدي الرسل (أعمال الرسل ٨ : ٩).
فهؤلا كما يقول الرسول عنهم "ذاقوا الموهبة السماوية وصاروا شركاء الروح القدس وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات الدهر الآتي" دون أن يكون هناك تغيير حقيقي في قلوبهم نتيجة الإيمان بالرب يسوع كالفادي والمخلص. لقد سمعوا الرسل يبشرون بكلمة الله مرارا ً كثيرة، وشاهدوا المعجزات التي كان يجريها الروح القدس على أيدي الرسل والمؤمنين الذين نالوا الموهبة السماوية لإجرائها، إلا أنهم رفضوا قبول الإيمان المسيحي وفضلوا البقاء في اليهودية وتقاليدها. فهؤلاء إذ "سقطوا"، أي فشلوا في إدراك الحق وتراجعوا عنه بعدما صار واضحا ً أمام عيونهم، "لا يمكن تجديدهم ايضا للتوبة. إذ هم يصلبون لأنفسهم إبن الله ثانية ويشهرونه".
لقد صلب اليهود المسيح مرة بجهل كما قال لهم الرسول بطرس "والآن أيها الإخوة أنا أعلم أنكم بجهالة عملتم كما رؤساؤكم أيضا ً" (أعمال الرسل ٣ : ١٧)، والرب يسوع وجد لهم عذرا ً على إعتبار أنهم كانوا يعيشون في الظلمة، فخاطب الآب وهو معلق على الصليب قائلا ً "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لوقا ٢٣ : ٣٤)، أما هؤلاء المستنيرين فإنهم بعدما إختبروا عظمة المسيحية رفضوا الايمان بالمسيح عمدا ً، مفضلين العودة إلى الديانة اليهودية.
لذلك فإن رفضهم للمسيح لا يمكن أن يكون معذورا ً لأن النور الإلهي قد وصل إليهم من خلال كلمة الله التي سمعوها مرارا ً والأعمال المعجزية التي رأوها. فرفضهم للمسيح هو أسوأ من رفض اليهود له، ولهذا يعتبر الرسول أن رفضهم هو بمثابة صلب للمسيح مرة ثانة وتشهير به، بمعنى أن عمل المسيح على الصليب من أجل خلاص البشر ليس كافيا ً بحسب أفكارهم، وبالتالي فإن أفكار الله لهذه الناحية غير ذات قيمة أو جدوى بنظرهم.
لقد كانت خطايانا مرة سببا ً لصلب المسيح والتشهير به، أما الذين يرفضون المسيح بعدما أكمل عمل الفداء، فإن خطاياهم تعتبر محاولة لصلبه ثانية، الأمر الذي لا يمكن أن يحدث، وبالتالي فإن خطاياهم لن تجد طريقا ً للغفران. والرسول يتابع في هذا المقطع فيشبه أمثال هؤلاء بأرض شربت المطر الآتي عليها مرارا ً كثيرة لكنها أخرجت شوكا ً وحسكا ً، وعليه فإنها ستكون مرفوضة وقريبة من اللعنة التي نهايتها الحريق.
ندعوك عزيزي القارئ إذا لم تكن قد إختبرت نعمة الخلاص بالإيمان بربنا يسوع المسيح، أن تسرع إليه حالا ً وتدعوه بكلمات بسيطة أن يدخل حياتك ويمتلك قلبك فيطهره ويمنحك الغفران والحياة الابدية. فهو لا يبعد عنك سوى مسافة صلاة . فلا تضيع الفرصة لأنه مكتوب "في وقت مقبول سمعتك وفي يوم خلاص أعنتك. هوذا الآن وقت مقبول. هوذا اليوم يوم خلاص" (الرسالة كورنثوس الثانية ٦: ٢). وله كل المجد الى الابد . آمين .