أعزائي الباحثين،
من الحقائق الجوهرية التي يؤمن بها المسيحيون، حقيقة أن الرب يسوع المسيح هو أحد الأقانيم الثلاثة للإله الواحد الذي خلق السموات والأرض وكل ما فيها، ولا يوجد إله آخر سواه أو معه. وإن كنا في هذه الرسالة نريد أن نتكلم عن المسيح كمن هو الرب الإله الذي يجب الإيمان به شخصيا ً للحصول على الرضى الإلهي والخلاص، نؤكد أولا ً عند ولوجنا باب البحث في أمور الله ولاهوت المسيح له المجد، كم نحن صغار جدا ً عن إدراك كامل أبعاد عظمة شخصه المبارك غير المحدود، آخذين بعين الإعتبار ما قاله هو عن نفسه "... وليس أحد يعرف الإبن إلا الآب. ولا أحد يعرف الآب إلا الإبن ومن أراد الإبن أن يعلن له" (متى ١١ : ٢٧). وكم نعترف بالإمتنان والشكر لأن ربنا يسوع أعلن في كلمته كل ما يلزمنا بحسب عقولنا المحدودة، لنعرفه المعرفة الكافية لجعل قلوبنا تفيض سلاما ً وفرحا ً، وتسجد له بحب وتعبد وشكر لأجل ذاته، ولأجل ما صاره لنا، وما فعله من أجل خلاص نفوسنا ونوالنا الحياة الأبدية.
الله واحد مثلث الاقانيم
نحن نؤمن كمسيحيين بأن الله واحد لا شريك له ولا نظير على الإطلاق. ولكن نوع هذه الوحدانية هو الشيء الذي يجري الإختلاف عليه، بحيث أنه تختلط على غير المسيحيين حقيقة أن وحدانية الله هي وحدانية جامعة وليست مجردة أو محدودة. وقد فات الكثيرين أن الأقنومية في الله هي من أهم مستلزمات كماله الإلهي، بحيث أن صفاته كالإله الحي الفاعل والمتفاعل كانت من خلال الأقنومية تعمل منذ الأزل بمعزل عن الخليقة التي خلقها في ما بعد. وإلا كيف كان الله يمارس صفاته قبل الخلق؟ فهو كسميع من كان يسمع حينذاك؟ وكمتكلم من كان يكلم؟ وكمحب من كان يحب؟ فإذا كان الله صامتا ً ولا يوجد من يحبه أو يستمع إليه في الأزل، ثم تكلم وأحب وسمع عند الخلق وبعده، فهذا يعني أن الله تغير. وحاشا لإسمه المبارك أن يكون متغيرا ً. فهو "... الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران" (رسالة يعقوب ١ : ١٧). ولكننا من خلال ما أعلنه الله عن نفسه في كلمته الحية ندرك أنه جامع في وحدانيته، التي من خلالها كان منذ الأزل يتكلم ويحب ويسمع ويمارس جميع الصفات الإلهية بكمالها، دون الحاجة إلى وجود أحد آخر غيره ليمارس هذه الصفات معه .
لقد أخفق كثيرون في فهم كلمة "أقانيم" المستخدمة للتعبير عن وحدانية الله الجامعة. فهي كلمة سريانية مفردها "أقنوم" وتعني "شخصية متميزة عن سواها دون إنفصال أو إستقلال". فالله له المجد حسبما أعلن عن نفسه في الكتاب المقدس هو ثلاثة أقانيم تشكل جوهره الواحد بكل صفاته وخصائصه ومميزاته. ولا يجوز أبدا ً إعتبار كل أقنوم أنه جزء من الله أو عنصر من عناصره، لأن الله واحد لا يتجزأ ولا ينقسم ولا تركيب فيه. فكل أقنوم هو ذات الله بكماله. والكتاب المقدس يعلمنا أن أقانيم الله الواحد هي "الآب والإبن والروح القدس". فالآب هو الله والإبن هو الله والروح القدس هو الله. فهم كأقانيم ليسوا ثلاثة آلهة، إنما الله الواحد هو ثلاثة أقانيم في وحدانيته الجامعة، التي من خلالها كان مكتفيا بذاته منذ الأزل، وكانت صفاته تعمل قبل أن تكون هناك خليقة يمارس معها هذه الصفات.
إننا لا نستطيع أن نشبه الله بأي شيء في الكون، لأن لا مثيل أو شبيه له على الإطلاق "فبمن تشبهونني فأساويه يقول القدوس" (أشعياء ٤٠ : ٢٥). ولكننا لتقريب الفكرة وتبسيطها سنتخذ الإنسان الذي خلقه الله على صورته وشبهه (سفر التكوين ١ : ٢٦ و٢٧) مثلا ً. فالإنسان كما هو معروف كائن ثلاثي، روح ونفس وجسد. وهذه الثلاثية تشكل الإنسان الواحد، على الرغم من أن لكل من الروح والنفس والجسد أعمال مختلفة وخصائص تميزها عن بعضها في إطار هذه الشخصية الواحدة. هكذا الله له المجد. هو واحد في أقانيمه الثلاثة التي تمتاز بخصائص تميزها عن بعضها ضمن هذه الوحدانية لله الذي لا إله آخر سواه او معه، مع فارق أن الإنسان مركب ومحدود كمخلوق، بينما الله له المجد غير مركب وغير محدود. ومن جملة ما أعلنه ربنا يسوع عن هذه الحقيقة قوله لتلاميذه "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم بإسم الآب والإبن والروح القدس" (متى ٢٨ : ١٩). فهو لم يقل "وعمدوهم بأسماء ..." ذلك لأن الآب والإبن والروح القدس كأقانيم، هم ذات الإله الواحد الذي لا إله آخر غيره في الكون.
المسيح يسوع هو إقنوم الإبن
سوف نحصر حديثنا الآن عن شخصية الرب يسوع المسيح كأحد أقانيم الله. فقد طرح آجور إبن متقية مسا، مسوقا ً من الروح القدس، هذا السؤال عن الله كالخالق قائلا ً "من صعد إلى السموات ونزل. من جمع الريح في حفنتيه. من صر المياه في ثوب. من ثبت جميع أطراف الأرض. ما أسمه وما إسم إبنه إن عرفت" (أمثال ٣٠ : ٤). فمن هذه الآية نفهم أن الله الخالق كان منذ الأزل على علاقة مع شخصية تدعى "إبنه". فهو إذا ً الآب. ومن المهم هنا إدراك أن الأبوية والبنوية شيئان يصيران واقعا ً في نفس اللحظة. فلا يمكن أن يكون الشخص أبا ً قبل وجود الإبن. فلا أسبقية في الأبوية. ولكون الآب هو الإله الأزلي، وجب أن يكون الإبن كذلك أزليا ً. ولكون الله كالآب هو الإله الوحيد الذي لا يوجد غيره في الكون، وجب أن يكون الإبن واحدا ً معه في الشخصية منذ الأزل. وهذه هي الأقنومية. أما لماذا دعي هذان الأقنومان في الله "الآب والإبن"، ذلك لأن إبن أي كائن حي يحمل في ذاته كل خصائص الأب وصفاته، على رغم تميزه عنه. فكون أن الآب كإله لا يوجد آخر غيره، وأن الإبن يحمل نفس الصفات والخصائص التي للآب، على رغم تميزه عنه في الأقنومية، فهذا يعني أن الآب والإبن يشكلان ذات الإله الواحد، الذي كان من خلال هذه الوحدانية الجامعة يمارس كل صفاته مع ذاته دون الحاجة إلى خليقة أخرى يمارس معها هذه الصفات، كالتكلم والسماع والحب إلخ .. إلخ. ومن هنا نستطيع أن نفهم الكثير من أقوال ربنا يسوع المسيح التي تكلم فيها عن نفسه كالإله المتجسد لفداء البشرية كإجابته عن سؤال آجور "من هو الخالق ؟" الوارد أعلاه، إذ قال "وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء إبن الإنسان الذي هو في السماء" (يوحنا ٣ : ١٣). من هذه الكلمات نفهم أن المسيح المتجسد هو الله الذي خلق الأكوان، وأنه كأقنوم إلهي لا يحد ولا ينفصل عن الآب في الوحدة الإلهية على رغم تميزه عنه في الأقنومية، كان لا يزال في السماء على رغم وجوده في الجسد على الأرض في نفس الوقت. وقد أعلن المسيح مرارا ُ كثيرة هذه الوحدة مع الآب في اللاهوت مثل قوله "أنا والآب واحد" (يوحنا ١٠ : ٣٠)، و "... الذي رآني فقد رأى الآب . فكيف تقول أنت أرنا الآب ؟ ألست تؤمن إني أنا في الآب والآب في ؟" (يوحنا ١٤ : ٩ و ١٠). وقد تذمر اليهود على المسيح مرارا ً كثيرة إذ كان يتكلم عن نفسه بإعتباره إبن الله، وإعتبروا ذلك تجديفا ً على العزة الإلهية، لأن عبارة "إبن الله" تعني في المفهوم الروحي الله نفسه "فأجابهم يسوع أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل. فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه، لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضا أن الله أبوه، معادلا ً نفسه بالله" (يوحنا ٥ : ١٧ و ١٨). وقد كانوا على صواب في فهمهم، على رغم عدم قبولهم لهذا الحق الثمين. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن بنوية المسيح لله الآب لا يجب التفكير بها بحسب المنطق الجسدي، ذلك لأنها بنوية روحية أزلية وليست بنوية مادية تحتاج إلى التكاثر للحفاظ على ديمومتها. كما أن تعبير "إبن الله" يشير في معناه إلى المعادلة لله من ناحية، وإلى إعلان الله للبشرية من ناحية ثانية، ومن ثم للتعبيرعن المحبة التي هي طبيعة الله، ظاهرة للبشر من خلال المسيح كما هو مكتوب "بهذا أظهرت محبة الله فينا أن الله قد أرسل إبنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به " (رسالة يوحنا الأولى ٤: ٩).
المسيح يسوع وأقنوم الروح القدس الروح القدس
هو أحد الأقانيم الثلاثة للإله الواحد الله الذي لا يوجد إله آخر سواه. وهو يتميز عن أقنومي الآب والإبن بخصائص وأعمال يقوم بها ضمن الوحدة الإلهية التي لا تتجزأ ولا تنفصل. وكون الروح القدس الذي يسكن في المؤمنين هو روح الله، فهذا يعني أنه روح الآب "لان لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم" (متى ١٠ : ٢٠). كما أنه روح الإبن أيضا ً "ثم بما أنكم أبناء، أرسل الله روح إبنه إلى قلوبكم صارخا ً يا آبا الآب" (رسالة غلاطية ٤ : ٦). وعليه، فكما أن الآب والإبن هما واحد في اللاهوت مع تميزهما في الأقنومية، كذلك الحال بين الإبن والروح القدس. فهما واحد لا يتجزأ في اللاهوت كما يقول الكتاب "وأما الرب ( يسوع ) فهو الروح. وحيث روح الرب فهناك حرية" (رسالة كورنثوس الثانية ٣: ١٧)، و " هكذا مكتوب أيضا ً. صار آدم الإنسان الأول نفسا حية وآدم الأخير ( اي المسيح يسوع ) روحا ً محييا ً" (رسالة كورنثوس الأولى ١٥: ٤٥). ومن هنا نستطيع أن نفهم معنى قول الملاك للعذراء المباركة مريم التي ولد منها المسيح يسوع "الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك. فلذلك أيضا ً القدوس المولود منك يدعى إبن الله" (لوقا ١ : ٣٥). فحلول الروح القدس في أحشاء العذراء مريم نتج عنه ولادة المسيح يسوع إبن الله، ذلك لأن الإبن هو الروح القدس نفسه متجسدا ً، لأنهما كأقنومين متميزين هما واحد في اللاهوت، ويشكلان مع الآب كأقانيم ثلاثة جوهر الله الواحد الذي لا يوجد إله آخر سواه .