الخلاص وصدق الله
يقول الوحي المقدس لتأكيد نوال المؤمن حياة أبدية لن تنزع منه أن الأمر متعلق بالدرجة الأولى في صدق الله. فالذين لا يؤمنون بثبات مركز المؤمن كمُخَلَص هم كمن يتهم الله له المجد بالكذب. وحاشا له أن يكون هكذا لأن "ليس الله إنساناً فيكذب. ولا إبن إنسان فيندم. هل يقول ولا يفعل. أو يتكلم ولا يفي؟" (سفر العدد ٢٣: ١٩). وإن كنا كبشر نصدق الأشخاص الذين نثق بهم مهما قالوا لنا، فكم بالأولى يجب أن نصدق الله "إن كنا نقبل شهادة الناس فشهادة الله أعظم لأن هذه هي شهادة الله التي قد شهد بها عن إبنه. من يؤمن بإبن الله فعنده الشهادة في نفسه. من لا يصدق الله فقد جعله كاذباً لأنه لم يؤمن بالشهادة التي قد شهد بها الله عن إبنه. وهذه هي الشهادة أن الله أعطانا حياة أبدية وهذه الحياة هي في إبنه. من له الإبن فله الحياة ومن ليس له إبن الله فليست له الحياة" (رسالة يوحنا الاولى ٥: ٩-١٢). فالحياة الأبدية وليست الوقتية هي التي أعطانا إياها الله الصادق على أساس الإيمان بإبنه. والوحي المقدس يؤكد أن "...هبات الله ودعوته هي بلا ندامة" (رسالة رومية ١١: ٢٩). وفي رسالته إلى تيطس يقول الرسول بولس "...لأجل إيمان مختاري الله ومعرفة الحق الذي هو حسب التقوى، على رجاء الحياة الأبدية التي وعد بها الله المنزه عن الكذب قبل الأزمنة الأزلية" (تيطس ١: ١و٢). والرسول يعقوب يقول عن هذه الحقيقة "لا تضلوا يا إخوتي الأحباء. كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران..." (رسالة يعقوب ١: ١٦و١٧). فحاشا لله أن يغير ما قد خرج من فمه المبارك.
ولكن ربما قائل يقول أن المشكلة ليست في الله بل في المؤمن نفسه. فماذا لو كان المؤمن غير أمين في حياته بعدما نال الخلاص، هل يبقيه الله في دائرة الحياة الابدية أم ينزع منه خلاصه؟ يقول الكتاب عن هذا:
"فماذا إن كان قوم لم يكونوا أمناء. أفلعل عدم أمانتهم يبطل أمانة الله؟ حاشا. بل ليكن الله صادقا ًوكل إنسان كاذباً..." (رسالة رومية ٣: ٣و٤).
و"إن كنا غير أمناء فهو يبقى أميناً لن يقدر أن ينكر نفسه" (رسالة تيموثاوس الثانية ٢: ١٣).
ولكن ألا تُشجع مثل هذه الآيات المؤمن لكي يعيش في الخطية كما يحلو له لأنه يعرف أن الله لن ينزع منه خلاصه؟ الجواب هو لا بالتأكيد. فالمؤمن الحقيقي المولود من روح الله، وإن كان غير معصوم عن الخطأ، ولكنه لا يمكن أن يعيش في الخطية بملء إرادته، إذ يقول الكتاب:
"نعلم أن كل من ولد من الله لا يخطىء. بل المولود من الله يحفظ نفسه والشرير لا يمسه" (رسالة يوحنا الاولى ٥: ١٨).
و"كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطىء لأنه مولود من الله. بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس..." (رسالة يوحنا الاولى ٣: ٩-١٠).
فمن يستغل أمانة الله ليعيش في الخطية هو مجرد مدع وليس مؤمنا حقيقياً ومصيره الهلاك الأبدي كواحد من أولاد إبليس.
الشفاعة والتأديب
أما بالنسبة للمؤمن الحقيقي الذي يخطىء بسبب من تجربة أو ضعف أو أي سبب آخر، فإن هناك معاملات إلهية تجري معه لمعالجته تتركز في ناحيتين: أولاً، شفاعة المسيح فيه أمام وجه الله الآب، في الوقت الذي يعمل الروح القدس في المؤمن موبخاً ومحفزاً له للإعتراف بخطيته:
"يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا. وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار. وهو كفارة لخطايانا..." (رسالة يوحنا الاولى ١: ١و٢).
و"إن إعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم" (رسالة يوحنا الاولى ١: ٩).
فالرسول بطرس الذي أنكر المسيح لم يهلك، وذلك بسبب شفاعة المسيح فيه لأنه كان مؤمناً حقيقياً. فقد سبق للرب أن قال له قبل الصليب "...سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة. ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك. وأنت متى رجعت ثبت إخوتك" (لوقا ٢٢: ٣١و٣٢). فالمسيح الذي يعرف المؤمنين الحقيقيين يشفع فيهم مهما كان إيمانهم ضعيفاً ومهما نتج من أفعال أو أقوال نتيجة ضعف الإيمان:
"فمن ثم يقدر أن يخلص أيضاً إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله إذ هو حي في كل حين ليشفع فيهم" (الرسالة إلى العبرانيين ٧: ٢٥).
و"يعلم الرب أن ينقذ الأتقياء من التجربة ويحفظ الأثمة إلى يوم الدين معاقبين" (رسالة بطرس الثانية ٢: ٩).
أما إذا إستمر المؤمن الحقيقي في ممارسة خطية معينة دون الإعتراف بها والتوبة عنها، فإنه يعرض نفسه للتأديب الإلهي كونه واحداً من أولاد الله. وهذه هي الناحية الثانية للتعامل الإلهي مع المؤمن الحقيقي الذي يخطىء. فالتأديب وسيلة من وسائل نعمة الله التي يستعملها لجعل المؤمنين الحقيقيين يشتركون في قداسته، كمن هم أبناء الله ويسكن فيهم الروح القدس. وطالما بقي المؤمن مصراً على التمسك بخطية معينة، فإن التأديب الإلهي له يتدرج في شدته حتى إلى الموت إذا لزم، ولكن ليس إلى الهلاك مجدداً:
"من أجل ذلك فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون. لأننا لو كنا حكمنا على أنفسنا لما حكم علينا. ولكن إذ قد حكم علينا نؤدب من الرب لكي لا ندان مع العالم" (رسالة كورنثوس الأولى ١١: ٣٠-٣٢).
"لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل إبن يقبله" (الرسالة إلى العبرانيين ١٢: ٦).
"طوبى للرجل الذي تؤدبه يا رب وتعلمه من شريعتك ...لأن الرب لا يرفض شعبه ولا يترك ميراثه" (مزمور ٩٤: ١٢و١٤).
"لا أموت بل أحيا وأحدث بأعمال الرب. تأديباً أدبني الرب وإلى الموت (أي الهلاك) لم يسلمني" (مزمور ١١٨: ١٨).
وما أوضح ما قاله الله في العهد القديم عن تأديب المؤمنين وثبات مركزهم كمن صاروا خاصة المسيح "وأجعل إلى الأبد نسله وكرسيه مثل أيام السموات. إن ترك بنوه شريعتي ولم يسلكوا بأحكامي، أن نقضوا فرائضي ولم يحفظوا وصاياي، أفتقد بعصا معصيتهم وبضربات إثمهم. أما رحمتي فلا أنزعها عنه ولا أكذب من جهة أمانتي. لا أنقض عهدي ولا أغير ما خرج من شفتي. مرة حلفت بقدسي أني لا أكذب لداود. نسله إلى الدهر يكون وكرسيه كالشمس أمامي. مثل القمر يثبت إلى الدهر. والشاهد في السماء أمين" (مزمور ٨٩: ٢٩-٣٧).
فمن هذا كله نتعلم أن صدق الله وأمانته ومعاملاته التأديبية وشفاعة المسيح هي الضامن للمؤمن الحقيقي لكي لا يخسر خلاصه في أي حال من الأحوال.
الخلاص وصدق المسيح
شهد يوحنا المعمدان عن المسيح قائلاً "...الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع. وما رآه وسمعه به يشهد وشهادته ليس أحد يقبلها. ومن قبل شهادته فقد ختم أن الله صادق" (يوحنا ٣: ٣٢ و٣٣). فكل ما قاله المسيح له المجد هو الصدق بكماله. وكل من يقبل شهادة المسيح عن اي شيء تحدث به، إنما يقبل شهادة الله ويصدق الله. فالمؤمن يمكن أن يهلك إذا غير الله أو المسيح أقواله. ولكن حاشا لله والمسيح أن يفعل ذلك. فماذا قال المسيح؟ إننا لا نستطيع في هذه المقالة أن نعدد الكل لأننا نحتاج إلى كتب ومجلدات كثيرة، ولكننا نكتفي بعدد من الشواهد من أقوال المسيح، مع العلم أن واحداً منها فقط يكفي لإثبات عدم إمكانية هلاك المؤمن الحقيقي.
- لا أخرجه خارجا ً
"كل ما يعطيني الآب فإلي يقبل. ومن يقبل إلي لا أخرجه خارجاً" (يوحنا ٦: ٣٧). من هذه العبارة نفهم أن من يُقبل إلى المسيح بالإيمان الحقيقي لن يخرجه المسيح من دائرة سلطانه مرة اخرى، دون أن يكون هناك شرط لذلك. فهو لا يقول مثلاً "ومن يقبل إلي لا أخرجه خارجاً إلا إذا حدث كذا وكذا...". بل على العكس من ذلك تماماً. فهو يتابع كلامه لتأكيد عدم هلاك المؤمن الحقيقي تحت أي ظرف من الظروف بالقول "وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا أتلف منه شيئاً بل أقيمه في اليوم الأخير. لأن هذه مشيئة الذي أرسلني أن كل من يرى الإبن ويؤمن به تكون له حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (يوحنا ٦: ٣٩ و٤٠). وهنا نشير إلى أن المؤمن هو عطية الله الآب للمسيح. فهل يمكن أن الله له المجد يُخدع بإنسان يدعي الإيمان فيقدمه إلى الإبن كعطية مطهرة ومقدسة؟ حاشا لله. فالمسيح قال "لا يقدر أحد أن يقبل إلي إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (يوحنا ٦: ٤٤). وهل يمكن أن الإبن يتلف ويهلك أي مؤمن أعطاه إياه الله الآب؟ حاشا لإسمه. فهو الصادق الأمين الذي قال "لا أتلف منه شيئاً". فكيف يمكن أن يهلك المؤمن إذاً؟ ربما يقول قائل أنه إذا أنكر المؤمن الله "مرتداً عن إيمانه" فإن الله يعود فيهلكه. إلا أن هذا القول لا نصيب له من الصحة، لأنه في هذه الحال يكون هذا الشخص واحداً من إثنين لا ثالث لهما: إما أنه كان مدعياً الإيمان، وفي وقت من الأوقات ظهر على حقيقته، ما يعني أنه لم يكن مخلصاً في الأصل ولم يكن إبناً لله ولا في أي لحظة من اللحظات، إما أنه مؤمن حقيقي مولود من روح الله، وقد ضعف إيمانه لسبب أو لآخر، وفي هذه الحالة ينطبق عليه ما ذكرناه عن المعاملات الإلهية الشفاعية والتأديبية لأولاده الحقيقيين، حيث لا مجال لهلاكهم على الإطلاق.
- لا يأتي الى دينونة
"الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة بل قد إنتقل من الموت إلى الحياة" (يوحنا ٥: ٢٤). فالمسيح هنا يؤكد بلا شروط أن المؤمن الحقيقي لا يأتي إلى دينونة. فكيف يدان المؤمن بعد أن حمل المسيح الدينونة بالنيابة عنه على الصليب؟ هل أن خطة الله الازلية التي أعدها لخلاص الناس وتمجيد شخصه العظيم المبارك هشة إلى هذا الحد، حتى أن المؤمن الحقيقي يعود فيهلك لأي سبب؟ وهل أن الله ليس بعادل حتى يعود ويأخذ حساب الخطية من المؤمن مرة ثانية بعد أن دفع المسيح حسابها بموته على الصليب؟ حاشا له "إن إعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم" (رسالة يوحنا الاولى ١: ٩). فلو أن الله لم يقبل بالثمن الذي دفعه المسيح بموته على الصليب كأجرة خطايانا، لكان المسيح له المجد بقي في القبر ولم يقم من بين الأموات. ولكن قيامة المسيح المجيدة الظافرة أثبتت بما لا يقبل الجدل أن الله قبِل أجرة الخطية التي هي موت (رسالة رومية ٦: ٢٣)، ما يعني خلاص كل من يؤمن بالمسيح رباً وفادياً من عقوبة الخطية ودينونتها إلى الأبد "لأنه لم يرسل الله إبنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم. الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن بإسم إبن الله الوحيد" (يوحنا ٣: ١٧و١٨). هذا يقودنا للتأمل في ما طلبه الرب من الآب في صلاته الشفاعية في المؤمنين قبل ذهابه إلى الصليب ومغادرته العالم بالجسد.
- لم يهلك منهم أحد
"…أيها الآب القدوس إحفظهم في إسمك الذين أعطيتني ليكونوا واحداً كما نحن. حين كنت معهم في العالم كنت أحفظهم في إسمك. الذين أعطيتني حفظتهم ولم يهلك منهم أحد إلا إبن الهلاك ليتم الكتاب. لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير" (يوحنا ١٧: ١١-١٥). فالمؤمنون الحقيقيون محفوظون في إسم الله لئلا يهلكوا مجدداً، وذلك إستجابة لطلبة المسيح منه أن يحفظهم من الشرير. وهذه الإستجابة كانت وستبقى سارية المفعول، ولا يمكن لأي شيء أن يعطلها لأنها أمر خاص متعلق بالآب وإبنه. فكل ما طلبه المسيح من الآب تمت إستجابته، لأن الله سر بالمسيح كالإنسان الكامل الذي لم يكن يطلب إلا ما يتوافق مع مشيئة الله ويمجد الله تماماً. وليس للمؤمن دور في هذا لا من قريب ولا من بعيد. كما أن المسيح يؤكد في قوله هذا أنه حفظ المؤمنين به في الوقت الذي كان معهم على الأرض، على رغم ضعف إيمانهم الذي ظهر في مناسبات عديدة. إلا أن إبن الهلاك قد هلك فعلاً الذي هو يهوذا الإسخريوطي. ولا يجب أن نفهم هنا أن يهوذا كان مؤمناً لكونه أحد تلاميذ المسيح، لكنه أنكر سيده وباعه بثلاثين من الفضة فخسر خلاصه وهلك مجدداً. فالمسيح أكد أن يهوذا هو "إبن الهلاك" أي إنه لم يكن طوال عمره خارج هذه الدائرة. فهو لم يكن يؤمن بالمسيح كالرب والفادي والمخلص أبداً، وبالتالي لم يكن حاصلاً على نعمة الخلاص ليعود فيخسره. وقد أشرنا سابقاً إلى بطرس وكيف تشفع فيه المسيح حتى قبل إنكاره إياه لأنه كان مؤمناً حقيقياً. أما عن حفظ الله للمؤمنين من الهلاك بقدرته، فهي الحقيقة التي لولاها لما كانت هناك أية إمكانية لثبات أي مؤمن تجاه أي تجربة قد يتعرض لها. وقد ترنم الرسول بولس بذلك فقال "...لأنني عالم بمن آمنت وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم" (رسالة تيموثاوس الثانية ١: ١٢). كما أن هذه الحقيقة كانت من ضمن التعاليم التي علم بها الرسل لتشجيع المؤمنين وتثبيتهم في الإيمان عند التجارب كما يقول الرسول بطرس "أنتم الذين بقوة الله محروسون بإيمان لخلاص مستعد أن يعلن في الزمان الأخير. الذي به تبتهجون مع إنكم الآن إن كان يجب تحزنون يسيراً بتجارب متنوعة" (رسالة بطرس الأولى ١: ٥ و٦). وهذا الأمر تحدث عنه يهوذا بالوحي المقدس أيضاً "…إلى المدعوين المقدسين في الله الآب والمحفوظين ليسوع المسيح...والقادر أن يحفظكم غير عاثرين ويوقفكم أمام مجده بلا عيب في الإبتهاج، الإله الحكيم الوحيد مخلصنا له المجد والعظمة والقدرة والسلطان الآن وإلى كل الدهور. آمين" (رسالة يهوذا ١و٢٤و٢٥). وقديماً قال المرنم "لأن الرب يحب الحق ولا يتخلى عن أتقيائه. إلى الأبد يحفظون. أما نسل الأشرار فينقطع" (مزمور٣٧: ٢٨). هذا يقودنا للتأمل في شهادة رابعة من أقوال ربنا يسوع المسيح الصادقة لتأكيد عدم هلاك المؤمن الحقيقي.
- لا يخطفها أحد من يدي
"خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني. وأنا أعطيها حياة أبدية. ولن تهلك إلى الأبد. ولا يخطفها أحد من يدي. أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل. ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي. أنا والآب واحد" (يوحنا ١٠: ٢٧-٣٠). يوجد في هذا الإعلان المجيد أكثر من دليل على ثبات وديمومة خلاص المؤمن الحقيقي. فبالإضافة إلى أن المؤمن أصبح واحداً من خراف المسيح الخاصة بعدما كان عبداً لإبليس وإبنا للهلاك، وقد نال من المسيح حياة أبدية وليست وقتية، يؤكد الرب هنا أن المؤمن لن يهلك إلى الأبد. وهذا قول قاطع لا يحتمل الإجتهاد في تفسيره بغير معناه المباشر والصحيح. فلم يضع الرب شرطاً لعدم هلاك المؤمن، بل قال فقط أنه "لن يهلك إلى الأبد"، على رغم معرفته كالعالم بكل شيء بأن المؤمن معرض للسقوط في الخطايا طالما هو موجود في الجسد على الأرض. وأضاف المسيح تأكيداً على تأكيده عدم إمكانية هلاك المؤمن إلى الأبد أنه قال و"لا يخطفها أحد من يدي". فالشيطان هو المخلوق الوحيد الذي يملك القدرة المؤثرة على مجريات حياة الإنسان وأبديته. ولكن ماذا صنع المسيح لإنقاذ الإنسان من سلطان الشيطان؟ يقول الوحي المقدس "وإذ كنتم أمواتاً في الخطايا وغلف جسدكم، أحياكم معه (أي المسيح) مسامحاً لكم بجميع الخطايا، إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض، الذي كان ضداً لنا، وقد رفعه من الوسط مسمراً إياه بالصليب، إذ جرد الرياسات والسلاطين، اأشهرهم جهاراً، ظافراً بهم فيه" (رسالة كولوسي ٢: ١٣-١٥). ففي صليب المسيح تمت الغلبة على الشيطان، والرب أعتق المؤمنين من عبودية إبليس القاسية كما هو مكتوب "فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم إشترك هو (أي المسيح) أيضاً كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية" (الرسالة إلى العبرانيين ٢: ١٤و٥١). فالإنتصار الكامل على الشيطان، والذي تم في صليب ربنا يسوع هو الترجمة الفعلية لما قاله الرب مرة "حينما يحفظ القوي (أي الشيطان) داره متسلحاً تكون أمواله في أمان. ولكن متى جاء من هو أقوى منه (أي المسيح) فانه يغلبه وينزع سلاحه الكامل الذي إتكل عليه ويوزع غنائمه" (لوقا ١١: ٢١و٢٢). فبعدما أنقذنا الرب من يد الشيطان، غالباً إياه ونازعاً سلاحه الكامل الذي كان يستعمله ضدنا، هل نظن أن الشيطان المغلوب والمجرد من رياسته وسلطانه على المؤمنين، يستطيع أن يغلب المسيح مرة جديدة ويخطفنا من يده؟ وأكثر من ذلك، يضيف الرب تأكيداً على تأكيداته السابقة عدم إمكانية هلاك المؤمن أنه قال "أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل". حقاً أن اللسان يعجز عن وصف روعة هذه الحقائق المجيدة المباركة. فكل عظمة الله وقدرته وجبروته له المجد يوظفها الآن لحفظ المؤمنين من الهلاك. فالذي خلق الأكوان ويحفظها بكلمة قدرته، هو إلهنا المحب الذي فدى نفوسنا من الهلاك الأبدي ليجعلنا خاصة له، وهو يسير معنا ويحملنا على الأذرع الأبدية لكي يصل بنا إلى بيته الأبدي سالمين وكاملين في شخص إبنه الحبيب يسوع. ويضيف الرب تأكيداً على تأكيداته السابقة بالنسبة لضمان مركز المؤمن كمفدي قائلاً "ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي" فمن يقدر أن يمس المؤمن الحقيقي وينتزعه من يد الآب؟ أن مجرد التفكير في إمكانية حدوث هذا هو الجنون بعينه. ألم يقل الكتاب عن الله "الإله القديم ملجأ والأذرع الأبدية من تحت..." (تثنية ٣٣: ٢٧). فهل يفقد الله له المجد قدرته على حماية المؤمنين من كل ما ومن يتوجس بهم شراً؟ حاشا له أن يتراجع عن أمانته في الوقت الذي يحتاج فيه المؤمن إلى الحماية والعون أمام قساوة الشيطان والخطية والجسد والعالم. فأمام هذه الحقائق الرائعة والضمانات المضاعفة التي تملأ النفس بالسلام والفرح واليقين، لا يسع المؤمن إلا أن يهتف منشداً مع الرسول بولس "ولكن شكراً لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين..." (الرسالة الثانية إلى كورنثوس ٢: ١٤).